فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} إنكار واستقباح لقصر نظرهم على ما ذكر من ظاهر الحياة الدنيا مع الغفلة عن الآخرة، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام، وقوله سبحانه: {فى أَنفُسهمْ} ظرف للتفكر، وذكره مع أن التفكر لا يكون إلا في النفس لتحقيق أمره وزيادة تصوير حال المتفكرين كما في اعتقده في قلبك وأبصره بعينك، وقوله عز وجل: {مَّا خَلَقَ الله السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إلاَّ بالحق} متعلق إما بالعلم الذي يؤدي إليه التفكر ويدل عليه أو بالقول الذي يترتب عليه كما في قوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْق السموات والأرض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا} [آل عمران: 191] أي اعلموا ظاهر الحياة الدنيا فقط أو أقصروا النظر على ذلك ولم يحدثوا التفكر في قلوبهم فيعلموا أنه تعالى ما خلق السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات التي هم من جملتها ملتبسة بشيء من الأشياء إلا ملتبسة بالحق أو يقولوا هذا القول معترفين بمضمونه إثر ما علموه، والمراد بالحق هو الثابت الذي يحق أن يثبت لا محالة لابتنائه على الحكم البالغة التي من جملتها استشهاد المكلفين بذواتها وصفاتها وأحوالها على وجود صانعها ووحدته وعلمه وقدرته واختصاصه بالمعبودية وصحة أخباره التي من جملتها إحياؤهم بعد الفناء بالحياة الأبدية ومجازاتهم بحسب أعمالهم عما يتبين المحسن من المسيء ويمتاز درجات أفراد كل من الفريقين حسب امتياز طبقات علومهم واعتقاداتهم المترتبة على أنظارهم فيما نصب في المصنوعات من الآيات والدلائل والإمارات والمخايل كما نطق به قوله تعالى: {وَهُوَ الذي خَلَقَ السموات والأرض في ستَّة أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] فإن العمل غير مختص بعمل الجوارح ولذلك فسره عليه الصلاة والسلام بقوله: أيكم أحسن عقلًا وأورع عن محارم الله تعالى وأسرع في طاعة الله عز وجل.
وقوله سبحانه: {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} عطف على الحق أي وبأجل عين قدره الله تعالى لبقائها لابد لها من أن تنتهي إليه لا محالة وهو وقت قيام الساعة وتبدل الأرض غير الأرض والسموات، هذا وجوز أن يكون قوله تعالى: {فى أَنفُسهمْ} متعلقًا بيتفكروا ومفعولًا له بالواسطة على معنى أو لم يتفكروا في ذواتهم وأنفسهم التي هي أقرب المخلوقات إليهم وهم أعلم بشؤونها وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها فيتدبروا ما أودعها الله تعالى ظاهرًا وباطنًا من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الاهمال وأنه لابد لها من انتهاء إلى وقت يجازيها الحكيم الذي دبر أمرها على الإحسان إحسانًا وعلى الإساءة مثلها حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير وأنه لابد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت.
وتعقب بأن أمر معاد الإنسان ومجازاته بما عمل من الإساءة والإحسان هو المقصود بالذات والمحتاج إلى الإثبات فجعله ذريعة إلى إثبات معاد ما عداه مع كونه بمعزل من الأجزاء تعكيس للأمر فتدبر.
وجوز أبوحيان أن يكون {مَا خَلَقَ} الخ مفعول {يَتَفَكَّرُوا} معلقًا عنه بالنفي، وأنت تعلم أن التعليق في مثله ممنوع أو قليل، وقوله تعالى: {وَإنَّ كَثيرًا مّنَ الناس بلقَاء رَبّهمْ لكافرون} تذييل مقرر لما قبله ببيان أن أكثرهم غير مقتصرين على ماذكر من الغفلة من أحوال الآخرة والإعراض عن التفكر فيما يرشدهم إلى معرفتها من خلق السموات والأرض وما بينهما من المصنوعات بل هم منكرون جاحدون لقاء حسابه تعالى وجزائه عز وجل بالبعث، وهم القائلون بأبدية الدنيا كالفلاسفة على المشهور.
{أَوَ لَمْ يَسيرُوا في الأرض} توبيخ لهم بعدم اتعاظهم بمشاهدة أحوال أمثالهم الدالة على عاقبتهم ومآلهم؛ والهمزة للإنكار التوبيخي أو الإبطالي وحيث دخلت على النفي وإنكار النفي إثبات قيل: إنها لتقرير المنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي اقعدوا في أماكنهم ولم يسيروا في الأرض، وقوله تعالى: {فَيَنظُرُوا} عطف على يسيروا داخل في حكمه والمعنى أنهم قد ساروا في أقطار الأرض وشاهدوا {كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين من قَبْلهمْ} من الأمم المهلكة كعاد وثمود، وقوله تعالى: {كَانُوا أَشَدَّ منْهُمْ قُوَّةً} الخ بيان لمبدإ أحوالهم ومآلهم يعني أنهم كانوا أقدر منهم على التمتع بالحياة الدنيا حيث كانوا أشد منهم قوة {وَأَثَارُوا الأرض} أي قلبوها للحرث والزراعة كما قال الفراء، وقيل: لاستنباط المياه واستخراج المعادن وغير ذلك.
وقرأ أبو جعفر {وَأَثَارُوا} بمدة بعد الهمزة، وقال ابن مجاهد: ليس بشيء وخرج ذلك أبو الفتح على الأشباع كقوله:
ومن ذم الزمان بمنتزاح

وذكر أن هذا من ضرورة الشعر ولا يجيء في القرآن، وقرأ أبو حيوة وأثروا من الأثرة وهو الاستبداد بالشيء وآثروا الأرض أي أبقوا فيها آثارًا {وَعَمَرُوهَا} أي وعمرها أولئك الذين كانوا قبلهم بفنون العمارات من الزراعة والغرس والبناء وغيرها، وقيل: أي أقاموا بها، يقال عمرت بمكان كذا وعمرته أي أقمت به {أَكْثَرَ ممَّا عَمَرُوهَا} أي عمارة أكثر من عمارة هؤلاء إياها والظاهر أن الأكثرية باعتبارًا لكم وعممه بعضهم فقال: أكثر كمًا وكيفًا وزمانًا، وإذا أريد العمارة بمعنى الإقامة فالمعنى أقاموا بها إقامة أكثر زمانًا من إقامة هؤلاء بها، وفي ذكر أفعل تهكم بهم إذ لا مناسبة بين كفار مكة وأولئك الأمم المهلكة فإنهم كانوا معروفين بالنهاية في القوة وكثرة العمارة وأهل مكة ضعفاء ملجؤون إلى واد غير ذي زرع يخافون أن يتخطفهم الناس، ونحو هذا يقال إذا فسرت العمارة بالإقامة فإن أولئك كانوا مشهورين بطول الأعمار جدًا وأعمار أهل مكة قليلة بحيث لا مناسبة يعتد بها بينها وبين أعمال أولئك المهلكين.
{وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} بالمعجزات أو الآيات الواضحات {فَمَا كَانَ الله ليَظْلمَهُمْ} أي فكذبوهم فأهلكهم فما كان الله تعالى شأنه ليهلكهم من غير جرم يستدعيه من قبلهم، وفي التعبير عن ذلك بالظلم إظهار لكمال نزاهته تعالى عنه وإلا فقد قال أهل السنة: إن إهلاكه تعالى من غير جرم ليس من الظلم في شيء لأنه عز وجل مالك والمالك يفعل بملكه ما يشاء والنزاع في المسألة شهير {ولكن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلمُونَ} حيث ارتكبوا باختيارهم من المعاصي ما أوجب بمقتضي الحكمة ذلك، وتقدم {أَنفُسهمْ} على {يَظْلمُونَ} للفاصلة؛ وجوز أن يكو للحصر بالنسبة إلى الرسل الذين يدعونهم.
{ثُمَّ كَانَ عاقبة الذين} أي عملوا السيئات، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالإساءة والإشعار بعلة الحكم، و{تَتَّقُونَ ثُمَّ} للتراخي الحقيقي أو للاستبعاد والتفاوت في الرتبة {السُّوأَى} أي العقوبة السوأى وهي العقوبة بالنار فإنها تأنيث الأسوأ كالحسنى تأنيث الأحسن أو مصدر كالبشرى وصف به العقوبة مبالغة كأنها نفس السوء، وهي مرفوعة على أنها اسم كان وخبرها {وَللَّه عاقبة}.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو {عاقبة} بالرفع على أنه اسم كان و{السوأى} بالنصب على الخبرية، وقرأ الأعمش والحسن {الصراط السوي} بإبدال الهمزة واوًا وإدغام الواو فيها، وقرأ ابم مسعود {السوء} بالتذكير {ثُمَّ كَانَ عاقبة الذين} علة للحكم المذكور أي لأن أو بأن كذبوا وهو في الحقيقة مبين لما أشعر به وضع الموصول موضع الضمير لأنه مجمل.
وقوله تعالى: {وَكَانُوا بهَا} عطف على {لَّمَّا كَذَّبُوا} داخل معه في حكم العلية وإيراد الاستهزاء بصيغة المضارع للدلالة على استمراره وتجدده، وجوز أن يكون {السوأى} مفعولًا مطلقًا لأساؤا من غير لفظه أو مفعولًا به له لأن أساؤا بمعنى اقترفوا واكتسبوا، والسوأى بمعنى الخطيئة لأنه صفة أو مصدر مؤول بها وكونه صفة مصدر أساؤا من لفظه أي الإساءة السوأى بعيد لفظًا مستدرك معنى، و{السوءى أَن كَذَّبُوا} اسم كان، وكون التكذيب عاقبتهم مع أنهم لم يخلوا عنه إما باعتبار استمراره أو باعبار أنه عبارة عن الطبع، وجوز أيضًا أن يكون أن كذبوا بدلًا من {السوأى} الواقع اسمًا لكان أو عطف بيان لها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي إن كذبوا، وأن تكون {إن} تفسيرية بمعنى أي والمفسر إما أساؤا أو {السوأى} فإن الإساءة تكون قولية كما تكون فعلية فإذن ما قبلها مضمن معنى القول دون حروفه ويظهر ذلك التضمن بالتفسير، وإذا جاز {وانطلق الملأ منْهُمْ أَن امشوا} [ص: 6] فهذا أجوز فليس هذا الوجه متكلفًا خلافًا لأبي حيان.
وجوز في قراءة الحرميين وأبي عمرو أن تكون {السوأي} صلة الفعل {وَأَنْ كَذَّبُوا} تابعًا له أو خبر مبتدأ محذوف أو على تقدير حرف التعليل وخبر كان محذوفًا تقديره وخيمة ونحوه.
وتعقب ذلك في البحر فقال: هو فهم أعجمي لأن الكلام مستقل في غاية الحسن بلا حذف وقد تكلف له محذوف لا يدل عليه دليل، وأصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أَنْفُسهمْ}.
عطف على جملة {وهُمْ عن الآخرة هم غَافلون} [الروم: 7] لأنهم نفوا الحياة الآخرة فسيق إليهم هذا الدليل على أنها من مقتضى الحكمة.
فضمير {يتفكروا} عائد إلى الغافلين عن الآخرة وفي مقدمتهم مشركو مكة.
والاستفهام تعجيبي من غفلتهم وعدم تفكرهم.
والتقدير: هم غافلون وعجيب عدم تفكرهم.
ومناسبة هذا الانتقال أن لإحالتهم رجوع الدَّالة إلى الروم بعد انكسارهم سببين:
أحدهما: اعتيادهم قصر أفكارهم على الجولان في المألوفات دون دائرة الممكنات، وذلك من أسباب إنكارهم البعث وهو أعظم ما أنكروه لهذا السبب.
وثانيهما: تمردهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن شاهدوا معجزته فانتقل الكلام إلى نقض آرائهم في هذين السببين.
والتفكر: إعمال الفكر، أي الخاطر العقلي للاستفادة منه، وهو التأمل في الدلالة العقلية.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتوي الأعْمَى والبَصير أفَلا تَتَفَكرون} في سورة الأنعام (50).
والأنفس: جمع نفْس.
والنفس يطلق على الذات كلها، ويطلق على باطن الإنسان، ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {تعْلَم مَا في نَفْسي} [المائدة: 116] كقول عمر يوم السقيفة: وكُنت زوّقت في نفسي مقالة أي في عقلي وباطني.
وحرف {في} من قوله: {في أنْفُسهم} يجوز أن يكون للظرفية الحقيقية الاعتبارية فيكون ظرفًا لمصدر {يَتَفَكَرُّوا} أي تفكرًا مستقرًا في أنفسهم.
وموقع هذا الظرف مما قبله موقع معنى الصفة للتفكر.
وإذ قد كان التفكر إنما يكون في النفس فذكر في أنفسهم لتقوية تصوير التفكر وهو كالصفة الكاشفة لتقرر معنى التفكر عند السامع كقوله: {ولاَ تخطّهُ بيَمينك} [العنكبوت: 48] وقوله: {ولاَ طَائر يَطير بجَنَاحَيه} [الأنعام: 38]، وتكون جملة {مَا خَلَقَ الله السَّمَاوات والأرْض} الخ على هذا مُبينة لجملة {يَتَفَكَرُّوا} إذ مدلولها هو ما يتفكرون فيه كقوله تعالى: {أمْ يَتَفَكَّروا ما بصَاحبهم من جنة} [الأعراف: 184].
ويجوز أن يكون {في} للظرفية المجازية متعلقة بفعل {يَتَفكروا} تعلق المفعول بالفعل، أي يتدبروا ويتأملوا في أنفسهم.
والمراد بالأنفس الذوات فهو في معنى قوله تعالى: {وفي أنْفُسكم أفَلا تُبْصرون} [الذاريات: 21]؛ فإن حق النظر المؤدّي إلى معرفة الوحدانية وتحقق البعث أن يبدأ بالنظر في أحوال خلقة الإنسان قال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا تُرجعون} [المؤمنون: 115] وهذا كقوله تعالى: {أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} [الأعراف: 185] أي في دلالة ملكوت السماوات والأرض، وتكون جملة {مَا خَلَق الله السماوَات والأرْض} الخ على هذا التفسير بدل اشتمال من قوله: {أنْفُسهم} إذ الكلام على حذف مضاف، تقديره: في دلالة أنفسهم، فإن دلالة {أنفُسهم} تشتمل على دلالة خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق لأن {أنفُسهم} مشمولة لما في الأرض من الخلق ودالة على ما في الأرض، وكذلك يطلق ما في الأرض دال على خلق أنفسهم.
وعلى الاحتمالين وقع تعليق فعل {يَتَفَكَّروا} عن العمل في مفعولين لوجود النفي بعده.
ومعنى {خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} أن خلقهم ملابسٌ للحق.
والحق هنا هو ما يحق أن يكون حكمة لخلق السماوات والأرض وعلة له وحق كل ماهية ونوع هو ما يحق أن يتصرف به من الكمال في خصائصه وأنه به حقيق كما يقول الأب لابنه القائم ببره: أنت ابني حقًا ألا ترى أنهم جعلوا تعريف النكرة بلام الجنس دالًا على معنى الكمال في نحو: أنت الحبيب لأن اسم الجنس في المقام الخطابي يؤذن بكماله في صفاته وإنما يعرف حق كل نوع بالصفات التي بها قابليته ومن ينظر في القابليات التي أودعها الله تعالى في أنواع المخلوقات يجد كل الأنواع مخلوقة على حدود خاصة بها إذا هي بلغتها لا تقبل أكثر منها؛ فالفرس والبقرة والكلب الكائنات في العصور الخالية وإلى زمن آدم لا تتجاوز المتأخرة من أمثالها حدودها التي كانت عليها فهي في ذلك سواءٌ.
دلت على ذلك تجارب الناس الحاضرين لأجيالها الحاضرة وأخبارُ الناس الماضين عن الأجيال المعاصرة لها وقياسُ ما كان قبل أزمان التاريخ على الأجيال التي انقرضت قبلها حاشا نوع الإنسان فإن الله فَطَره بقابلية للزيادة في كمالات غير محدودة على حسب أحوالل تجدُّد الأجيال في الكمال والارتقاء وجعله السلطان على هذا العالم والمتصرف في أنواع مخلوقات عالَمه كما قال: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة: 29] وذلك بما أودع فيه من العقل.
ودلت المشاهدة على تفاوت أفراد نوع الإنسان في كمال ما يصلح له تفاوتًا مترامي الأطراف، كما قال البحتري:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتًا ** لدى الفضل حتى عُدّ ألف بواحد

فدلت التجربة في المشاهدة كما دلت الأخبار عن الماضي وقياس ما قبل التاريخ على ما بعده، كل ذلك دل على هذا المعنى، ولأجل هذا التفاوت كلف الإنسان خالقُه بقوانين ليبلغ مرتقى الكمال القابل له في زمانه، مع مراعاة ما يحيط به من أحوال زمانه، وليتجنب إفساد نفسه وإفساد بني نوعه، وقد كان ما أعطيه نوع الإنسان من شُعب العقل مخوّلًا إياه أن يفعل على حسب إرادته وشهوته، وأن يتوخّى الصواب أو أن لا يتوخّاه، فلما كلفه خالقهُ باتباع قوانين شرائعه ارتكب واجتنب فالتحق تارة بمراقي كماله، وقصَّر تارة عنها قصورًا متفاوتًا، فكان من الحكمة أن لا يُهمَل مسترسلًا في خطوات القصور والفساد، وذلك إما بتسليط قوة مُلْجئَة عليه تستأصل المفسد وتستبقي المصلح، وإما بإراضته على فعل الصلاح حتى يصير منساقًا إلى الصلاح باختياره المحمود، إلا أن حكمة أخرى ربانية اقتضت بقاء عمران العالم وعدمَ استئصاله، وبذلك تعطل استعمال القوة المستأصلة، فتعين استعمال إراضته على الصلاح، فجمع الله بين الحكمتين بأن جعل ثوابًا للصالحين على قدر صلاحهم وعقابًا للمفسدين بمقدار عملهم، واقعًا ذلك كلُّه في عالم غير هذا العالم، وأبلغ ذلك إليهم على ألسنة رسله وأنبيائه إزالة للوصمة، وتنبيهًا على الحكمة، فخاف فريق ورجا فارتكب واجتنب، وأعرض فريق ونأى فاجترح واكتسب، وكانَ من حق آثار هاته الحكم أن لا يُحرم الصالح من ثوابه، وأن لا يفوتَ المفسد بمَا به ليظهر حق أهل الكمال ومَن دونهم من المراتب، فجعل الله بقاء أفراد النوع في هذا العالم محدودًا بآجال معينة وجعل لبقاء هذا العالم كله أجلًا معينًا، حتى إذا انتهت جميع الآجال جاء يوم الجزاء على الأعمال، وتميز أهل النقص من أهل الكمال.
فكان جَعْل الآجال لبقاء المخلوقات من جملة الحق الذي خُلقت ملابسةً له، ولذلك نُبّه عليه بخصوصه اهتمامًا بشأنه، وتنبيهًا على مكانه، وإظهارًا أنه المقصدُ بكيانه، فعطفه على الحق للاهتمام به، كما عطف ضده على الباطل، في قوله: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115] فقال: {أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى} وقد مضى في سورة الأنعام (73) قوله: {وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق} الآية.
وفائدة ذكر السماوات هنا أنّ في أحوال السماوات من شمسها وكواكبها وملائكتها ما هو من جملة الحق الذي خلقت ملابسة له، أما ما وراء ذلك من أحوالها التي لا نَعرف نسبة تعلقها بهذا العالم، فنَكلُ أمره إلى الله ونقيسُ غائبه على الشاهد، فنُوقنُ بأنه ما خُلق إلا بالحق كذلك.
فشواهد حقيَّة البعث والجزاء بادية في دقائق خلق المخلوقات، ولذلك أعقبه بقوله: {وإن كثيرًا من الناس بلقاء ربهم لكافرون} وهذا كقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا تُرجعون} [المؤمنون: 115].
والمسمَّى: المقدَّر.
أطلقت التسمية على التقدير، وقد تقدم عند قوله تعالى: {ونُقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى} في سورة الحج (5).
وعند قوله تعالى: {ولولا أجل مسمّى لجاءهم العذاب} في سورة العنكبوت (53).
وجملة: {وإن كثيرًا من الناس بلقاء ربهم لكافرون} تذييل.
وتأكيده ب {إن} لتنزيل السامع منزلة من يشك في وجود من يجحد لقاء الله بعد هذا الدليل الذي مضى بَلْهَ أن يكون الكافرون به كثيرًا.